بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت إله السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق، اللهم لك أسلمنا، وبك آمنا، وعليك توكلنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم بك خاصمنا، وإليك حاكمنا، وبدينك رضينا، وإلى رحمتك رغبنا، فاغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله على حين ظلمة وغفلة من الناس، فبصر به من العمى، وهدى به من الضلالة، وأنار به من الظلمة، وأنقذ به من الهلكة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
إخوة الحق و الإيمان : لا زلنا مع أمراض القلوب ، فقد تحدثنا من قبل عن الرياء و الحسد و اليوم لنا جولة مع مرض آخر لا يقل خطورة عن سابقيه ألا و هو داء " الكبر " أعاذني الله و إياكم منه ، فما الكبر ؟
تعريف الكبر : هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير ، أو هو : استحقار الغير و ازدراؤه و استصغاره .
فالكبر من أمراض القلوب المذمومة شرعا وهو ينشأ من إعجاب الإنسان بنفسه في أمر من الأمور ، فمن الناس من يتكبر على الغير بعلمه أو بعبادته أو بحسبه أو بنسبه أو بجماله أو بماله أو بقوته أو بكثرة أولاده و أهله أو منصبه ، لأن الكبر معاشر الحضور مرض قلبي ولكنه حين يتمكن من الإنسان فإنه يظهر في أعماله و أقواله و أفعاله .
وفي ذم الكبر وتعريفه ورد ت كثير من النصوص منها قوله تعالى: (( أليس في جهنم مثوى للمتكبرين )) الزمر 60 ، وقوله تعالى : (( ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا )) الإسراء 37 ، وقوله تعالى : (( و لا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور )) لقمان 18 .
و عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ؟ قال : إن الله جميل ـ كامل منزه عن النقص ـ يحب الجمال ، الكبر بطر الحق ـ رد الحق ودفعه وعدم قبوله من الناس ـ وغمط الناس ـ احتقار الناس ـ )) مسلم والترمذي ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إن أبغضكم إلي و أبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون و المتفيقهون ، قالوا : يا رسول قد علمنا الثرثارون و المتشدقون فما المتفيقهون قال: المتكبرون )).
وعن أسماء بنت عميس قالت : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : (( بئس العبد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال ، بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى ، بئس العبد عبد سها ولها ونسي المقابر والبلى ، بئس العبد عبد عتى وطغى ونسي المبتدا والمنتهى ، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين بالشهوات ، بئس العبد عبد طمع يقوده ، بئس العبد عبد هوى يضله ، بئس العبد عبد رغب يذله )) الترمذي ـ قَالَ اَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ اِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَيْسَ اِسْنَادُهُ بِالْقَوِيِّ ـ والطبراني .
معاشر الحضور : ينقسم المتكبرون إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : المتكبرون على الله : وهو أفحش أنواع الكبر ومثاله من يستكبر على عبادة الله أو السجود له أو من يدعي الألوهية ، وقد أخبرنا القرآن عن هذا النوع قال تعالى : (( وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ، أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا )) الفرقان 60 ، وقال تعالى عن فرعون : (( فقال أنا ربكم الأعلى )) النازعات 24 .
القسم الثاني : المتكبرون على الرسل : أي تكبر بعض الناس عن الانقياد لما جاءت به الرسل من الحق ، وقد أخبرنا القرآن عن قريش حين قالوا : (( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم )) الزخرف 31 ، ويقاس على ذلك مخالفة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ و محاربة سنته والاستهزاء بها وتسميتها بالقشور ، عن سلمة بن الأكوع (( أن رجلا أكل عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشماله ، فقال : كل بيمينك ، قال : لا أستطيع ، قال : لا استطعت ، ما منعه إلا الكبر ، قال : فما رفعها إلى فيه )) مسلم ، ماذا كانت نتيجة تكبره ؟ يبست يده ولم يستطع أن يرفعها .
القسم الثالث : المتكبرون على الناس : أي من يستعظم نفسه ويزدري ويستصغر غيره ، عن جندب بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : (( من ذا الذي يتألى ـ يحلف على الله ـ على أن لا أغفر لفلان ، إني قد غفرت له ، و أحبطت عملك )) مسلم .
معاشر الحضور : السؤال المطروح : ما هي نتائج الكبر ؟
1- استقرار الكبر في القلب : فقد يرى المتكبر نفسه أفضل من غيره فالكبر في هذه الحالة يكون مستقرا في قلب المتكبر فقط .
2- ظهور الكبر في الأفعال : فإذا تطور الكبر تعدى القلب إلى الأفعال ، ومن أمثلته ما يلي :
-أن يصعر المتكبر وجهه عند رؤية من يرى أنه أحقر منه .
ـ أن يحب المتكبر قيام الناس له .
ـ أن لا يمشي إلا ومعه غيره من الناس وخلفه .
ـ أن يستنكف المتكبر عن الجلوس بين يدي غيره من العلماء و إن كان يستفيد منه .
ـ أن لا يعمل في بيته عملا بيده أو يحمل متاعه إلى بيته .
ـ أن يتزين للناس باللباس والثياب للشهرة .
ـ أن يجتهد العالم المتكبر في مناظرة غيره وإظهار نقصه لا سيما أمام الناس وطلاب العلم ليظهر لهم أنه أفضل من غيره .
ـ أن يفرح العالم المتكبر إذا ظهر خطأ عالم آخر في مسألة ، ……الخ .
3- ظهور الكبر في الأقوال : ومن أمثلة ذلك :
- أن يدعي المتكبر بلسانه العلم أو العمل .
ـ أن يقول المتعبد المتكبر مثلا من هو فلان وما عمله ثم يثني على نفسه ويشكرها .
ـ أنا أصوم في الشهر كذا يوم و أصلي في اليوم كذا ركعة .
ـ قصدني فلان بسوء فأصابته المصيبة الفلانية من ضياع مال أو مرض أو هلاك ولد .
ـ أن يقول العالم المتكبر أنا أعلم بعلوم كثيرة ودرست على الشيخ الفلاني ، فمن أنت ؟
معاشر الحضور :ونظرا لخطورة هذا المرض فقد تطرق إليه الحكماء والشعراء ، ومما ورد فيه :
* قال أحد الحكماء : "من برئ من ثلاث نال ثلاثا : من برئ من السرف نال العز ، ومن برئ من البخل نال الشرف ، ومن برئ من الكبر نال الكرامة " .
•قال ابن مسعود : " كفى بالمرء إثما إذا قيل له : اتق الله ، قال : عليك نفسك ".
•استأذن رجل كان إمام قوم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذا سلم من صلاته ذكرهم ، فقال : " إني أخاف أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا " .
•قال ابن المعتز : " لما عرف أهل النقص حالهم عند ذوي الكمال استعانوا بالكبر ليعظم صغيرا ، ويرفع حقيرا ، وليس بفاعل ".
•وقال شاعر : يا مظهر الكبر إعجابا بصـورتــه **** انظر خلاك فإن النتن تـثـريـب
لو فكر الناس فيما في بطـونـهــم **** ما استشعر الكبر شبان ولا شـيب
هل في ابن آدم مثل الرأس مـكرمة **** وهو بخمس من الأقذار مضروب
أنف يسيل و أذن ريحـها سـهـك **** والعين مرفضة والثغر مـلعـوب
يا ابن التراب و مأكول التراب غدا **** أقصر فإنك مأكول و مـشـروب معاشر الحضور : من أراد مؤنسا فالله يكفيك ، و من أراد حجة فالقرآن يكفيك ، و من أراد عظة فالموت يكفيه ، و من أراد الغنى فالقناعة تكفيه .
كن غني القلب و اقنع بالقليل **** مت و لا تطلب معاشا من لئيم
لا تكن للعيش مجروح الفؤاد **** إنما الرزق على الله الكريـــــم
و من لم يكفه هذا و لا ذاك فنار ربه يوم القيامة تكفيه ... البر لا يبلى و الذنب لا ينسى و الديان لا يموت ، اعمل ما شئت يا ابن آدم فكما تدين تدان ، و يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كل ابن آدم خطاء و خير الخطائين التوابون )) ، فلنتب إلى الله جميعا عسى أن نكون من المفلحين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
الخطبة الثانية : الحمد لله و كفى و الصلاة و السلام على المصطفى .
معاشر الحضور : ما هو علاج الكبر ؟
1- معرفة الله : ويعني ذلك أن يتعلم المسلم والمسلمة علم التوحيد و حينئذ يعلم أن العظمة والكبرياء لا يليقان إلا بالله تعالى ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( قال الله عز وجل : (( العز إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته )) ) مسلم .
2-معرفة النفس : أي أن يعرف الإنسان نفسه ،ومن تفكر في معاني الآية (( قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ،من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره )) عبس 17-22 ، لعرف أن هذه الدنيا ليس في داره فرح وسرور فضلا عن أن يتكبر ، وفيما يلي نذكر أحوال الإنسان الثلاث :
ح1- مبدأ الإنسان : كان في العدم ثم أوجده الله وخلقه من نطفة مذرة ـ جمادا لا يسمع ولا يبصر ـ .
ح2- وسط أمر الإنسان : فالإنسان في مدة حياته ضعيف غاية الضعف يمرض كرها ويجوع كرها ويعطش كرها ويموت كرها ، و لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا ، فبالجملة هو ذليل و لا يليق الكبر به .
ح3-آخرأمر الإنسان:وهو الموت فيصير جيفة منتنة قذرة يستقذره كل إنسان ثم يخرج إلى أهوال القيامة والحساب العسير.
3- التواضع لله وللخلق : وذلك بالإيمان والصلاة التي تشتمل على السجود لله وفي ذلك استقرار التواضع في القلب ، والمواظبة على أخلاق المتواضعين ولنا في رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ المثل الأعلى إذ كان : يحلب الشاة ، ويخصف النعل ، ويرقع الثوب ، و يأكل مع خادمه ، ويشتري الشيء من السوق ، ويصافح الغني والفقير ، لين الخلق ، جميل المعاشرة ، رقيق القلب ، ……..) ، قال ـ صلى الله عليه وسلم : (( ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله )) مسلم والترمذي .
•جعل عمر بن الخطاب في طريقه إلى الشام بينه وبين غلامه مناوبة ، فكان يركب الناقة ويأخذ الغلام بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ ثم ينزل ويركب الغلام ويأخذ عمر بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ ، فلما قرب من الشام كانت نوبة ركوب الغلام فركب الغلام و أخذ عمر بزمام الناقة ، فاستقبله الماء في الطريق فجعل عمر يخوض في الماء ونعله تحت إبطه اليسرى وهو آخذ بزمام الناقة ، فخرج أبو عبيدة بن الجراح وكان أميرا على الشام وقال : " يا أمير المؤمنين إن عظماء الشام يخرجون إليك فلا يحسن أن يروك على هذه الحال " ، فقال عمر : " إنما أعزنا الله بالإسلام فلا نبالي من مقالة الناس " .
* وقال شاعر : تواضع تكن كالنجم لاح لناظر **** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفســـــه **** إلى طبقات الجو وهو وضيع
فاتقوا الله عباد الله